د.محمد العوضي
دأب الكثير من الناس على إسقاط الأحاديث النبوية الخاصة بالفتن والملاحم وأشراط الساعة على حوادث الواقع المعاصر، لكن تاهت البوصلة وشطحت الأقيسة وتم التركيب القسري للنصوص على الحوادث الجسام، وقد تناولت هذه الإشكالية بسلسلة مقالات في جريدة الراي الكويتية عندما نشطت داعش في توظيف الأحاديث الإخبارية بما يوافق تصوراتها!
وقد تم استدعاء النصوص الحديثية في الحرب الدائرة اليوم بين الكيان الصهيوني الغاصب وبين إيران وكان آخر ما تم تداوله حديث الاستبدال، وقد تناوله الشيخ أحمد السيد بالنقد والتحليل لحديث الاستبدال بإجابة مفصلة من جهة سنده وفقهه وانتهى بالحكم بضعفه، ووصلتني رسالة من زميل يورد ثلاثة وجوه يتقوى بها الحديث فأحلتها إلى د.صهيب السقار المشتغل بعلم الحديث وصاحب سلسلة دروس شرح الموطأ للمزيد من الإثراء، فكان هذا جوابه:
" قرأت التعليق الذي أرسلتموه. وهو تعليق لأحد الأفاضل يصحح الخبر الذي أثار الجدل في تنزيله على الواقع بين الكيان وإيران، وقد ذكر الأخ ثلاثة أسباب يترجح بها التصحيح في رأيه
أولها: القرائن.
ثانيهما: تصديق الواقع له.
وثالثها: أنه أثر في الملاحم وليس حديثاً في التشريع.
ولكن هذه الأسباب الثلاثة لا تقتضي التصحيح في علم مصطلح الحديث ونقده.
أولا: أما القرائن وهي (الشواهد والمتابعات التي توافق هذا الخبر) فلا تصلح للتصحيح . بدليل أن المتقدمين وقفوا على هذه الروايات ولم يجعلوها قرائن تدل على التصحيح. بل نصوا على ضعف هذه القرائن وعدم تقويتها للخبر. وإنما فعل ذلك الشيخ الألباني رحمه الله. وقد انتقده فريق من المؤيدين له والمخالفين بتوسعه في التصحيح بالشواهد والمتابعات التي وقف عليها المتقدمون ولم يقيموا لها وزنا يصحح الأخبار المنكرة.
ومنها هذا الخبر الذي نص الإمام البخاري على شدة ضعف راويه وهو الزنجي فقال: (منكر الحديث).
وقال الترمذي في متنه وإسناده ( هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، فِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ)
ولا يخفى أن حكم البخاري بنكارة الراوي وحكم الترمذي بنكارة المتن لا ترفعها القرائن الواهية
ثانياً: وأما السبب الثاني وهو تصديق الواقع فهو قاصر لا يفيد التصحيح.
فمحل الشاهد الذي وقع عليه الاستدلال هنا هو استبدال الفرس بمن تولى. وهم العرب أو أهل السنة.
والواقع لا يصدق اتهام العرب وأهل السنة بالتولي! بل الواقع يكذبه بثبات ورباط لم يسبق له مثيل في التاريخ. وهو ثبات النخبة التي اصطفاها الله من العرب في غزة لا يضرها من خذلها ولو تكالب عليها العالم.
والتولي إنما يتحقق الاتهام به في حق من واجه العدو والزحف فولاهم دبره.
ولا يخفى أن كثيرا من العرب محبوسين ممنوعين من الزحف. بل منعوا من الوصول بالغذاء لإغاثة المستضعفين المحاصرين. ومنعوا من مجرد التظاهر السلمي في بلدانهم.
فلا يتحقق فيهم الاتهام بالتولي. ولا يتحقق في غيرهم ممن حبسهم العذر ولم يتمكنوا من مواجهة العدو.
فقد شهد النبي لأمثالهم بالبراءة من التولي بل شهد لهم بالمشاركة في الغزو مع بقائهم في بيوتهم.
كما روى الإمام أحمد بسند صحيح أنه لما رجع من غزوة تبوك قال "إن بالمدينة لقوماً ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا، إلا كانوا معكم فيه قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة حبسهم العذر"
فنسأل الله أن يجعلنا وعموم المسلمين المؤيدين لغزة مع الأخ الفاضل من المحبوسين بالعذر.
اللهم لا تحرمنا أجر المرابطين نيابة عنا في مسرى نبينا عليه الصلاة والسلام. اللهم لا تفتنا بعدهم. وعجل لنا ولهم بالفتح والنصر والتحرير.
ثالثاً: وأما السبب الثالث: وهو كون الخبر من الملاحم فهذا لا يقتضي التصحيح عند أحد من المتقدمين أو المتأخرين.
نعم ربما يقتضي التساهل في قبوله أو الاستشهاد به مع ضعفه. كما نص النقاد على ذلك في فضائل الأعمال ونحوها. لكن أحدا منهم لم يزعم أن هذا الاستشهاد يرتقي بالخبر الضعيف ويرفعه إلى الصحة.
وهنا ربما يقول الأخ الفاضل: نعم لم أقصد تصحيح إسناده بل قصدت القبول وتصحيح الاحتجاج به .
فالجواب: أن هذا القبول وتنزيل مضمونه على واقعنا أعظم من كونه خبرا في الملاحم أو التشريع، لأنه شهادة آثمة على عموم العرب بأقسى الأحكام وهو التولي. وفي المقابل هو شهادة عظيمة بالثناء على من لا يستحقها من حكام إيران. ولا نطيل في ذكر الجرائم والبدع التي تنافي هذا الثناء الرباني عليهم.
ويغني عن ذلك أن عُمُر المواجهة الحقيقة بين إيران والكيان لا تزال تُحسب بالأيام. والتولي والاستبدال والثبات والرباط لا يُحسب بالأيام ولا بالشهور.
أخيرا: إذا كان الأخ الفاضل يفتش عن خبر تتحقق فيه أسباب التصحيح الثلاثة التي تفضل بها فهناك خبر أولى من هذا الخبر بمثل هذا التصحيح، وهو ما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك ". قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: " ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس "
الرباط في غزة على غرة الملاحم وجبين الأمجاد. وهو أولى وأصدق ما تصدقه القرائن والواقع.