مريم مجدولين اللحام ـ نداء الوطن
لا تحتاج السوق النقدية في لبنان سوى إلى إشاعة عابرة حول «عدم قبول فئة معيّنة من الدولار» كي تنفجر بلبلة واسعة النطاق، ذلك أنّ الدولار تحوّل بعد انهيار الليرة اللبنانية إلى ملاذ وجوديّ للمواطن والمقيم. وما يجرى حاليًا مع ورقة الـ 100 دولار القديمة – المئة البيضاء – ليس سوى عيّنة صغيرة من معركة ثقة باتت هي نفسها سلعة للمضاربة، يتلاعب بها التجّار والصرّافون غير الشرعيين كأداة ضغط على الناس.
على الرغم من تعميم مصرف لبنان الصريح (في إطار الضغط الحذر) والذي يؤكّد أنّ جميع الأوراق النقدية الصادرة عن الاحتياطي الفيدرالي الأميركي – جديدة كانت أم قديمة – تُعتمد قانونًا من دون أي تمييز، تتزايد شكاوى المواطنين من امتناع الناس وإحجام دكاكين البقالة وحتى التجار عن قبول أوراق المئة دولار القديمة أو التداول بها، أو قبولها عند صرّافين بشروط مجحفة وفرض رسوم إضافية غير مبرّرة عبارة عن 7 % من قيمتها الإجمالية، عند الدفع أو الاستبدال أو التحويل. إنها عمولة على الخوف!
ما يحدث لا يُعدّ مجرّد إشكالية فنيّة، بل هو وجه آخر لانهيار الثقة بالعملات... باختصار الشعب يعاني من «تروما». فئة نقدية واحدة تكفي لإشعال دوّامة من القلق، وتكشف كيف تحوّلت السيولة النقدية إلى ساحة مواجهة مفتوحة بين المواطن الباحث عن استقرار العملة التي يحملها في جيبه، وبين شبكات المضاربين الذين يصنعون أرباحهم من التلاعب بخوف الناس اليومي. والمرعب أن المواطن العادي يسعى لتصريفها بأي سعر متاح خوفًا من أن تصبح بلا قيمة.
للموضوعية، لا يمكن اتهام طرف بعينه بأنه حفر مستنقع الفوضى النقدية الذي سرعان ما تحوّل إلى بركة آسنة للصرّافين غير الشرعيين تصلح لتكاثر أوبئة الربح غير الشرعي. ومن البديهي أن مسار الانهيار لم يبدأ مع هذه «الفتاوى الغريبة» حول المئة البيضاء فحسب، بل مع زمن السقوط التدريجيّ للرقابة على اقتصاد الكاش المستجدّ، وتبخّر القيمة الفعلية للّيرة اللبنانية، وتحويل الدولار إلى ملاذ شبه وحيد.
منذ تلك اللحظة الفاصلة، لم يعد المشهد أزمة عابرة بل تركة وطنيّة مثقلة بالتحايل والتهريب والاقتصاد الموازي. تركة يشارك في صنعها اهتراء الثقة بالمؤسسات التي يجدر بالمواطن التبليغ إليها، إلى أحزاب ميليشياوية تقتات على الفوضى، إلى شبكات صرافة شرعية وغير شرعية لا يبدو أنها ترتدّ عن الاستثمار في الخوف، وصولًا إلى جمهور يساق إلى المقايضة حتى على مدّخراته ورواتبه.
أما دور من يمسك بمفاصل السوق السوداء للصيرفة فعظيم، ذلك أنه يتنفّس من حالة الخوف الجماعي كرئة لكينونته، ويُدفع الناس إلى بيع أوراقهم «المرفوضة» بخصم كبير، ليعاد تدويرها، ويتحوّل الخصم الذي اقتُطع من جيب المواطن المذعور إلى هامش ربح صافٍ يغذي أنشطة غير مشروعة. وفي موازاة ذلك، يقدّم تجار الأزمات خدماتهم كوسطاء لتصريف هذه الكتل النقدية، ويستفيدون من حركة التبديل لتحقيق أرباح غير شرعية تحت عنوان «تصريف أوراق قديمة».
في كل الأحوال، هذا النوع من التجارة غير الشرعية وغير الأخلاقية، لا يقتصر على فئة الـ 100 دولار القديمة، بل يتعدّاها ليشمل كلّ فئات العملة الخضراء، بحيث يتمّ رفض كل ورقة قديمة أو فيها ما يشبه المزق الصغير. وهذا الوضع يعاني منه المواطن يوميًا. وقد أمل البعض أن تتبدّل هذه الأوضاع الشاذة، بعد بيان مصرف لبنان وتأكيداته على ضرورة قبول كلّ هذه العملات طالما أنها غير مزوّرة. لكنّ شيئًا لم يتغيّر، وبقيت الأوراق القديمة أو الوسخة أو التي فيها مزق صغير، ولو غير مرئي تقريبًا، مرفوضة في السوق، ويضطر حاملها إلى نقلها إلى الصرف ليبدلها له مع خصم نسبة مئوية من قيمتها الحقيقية.
ولم يقتصر الأمر على بيان مصرف لبنان التحذيري، إذ سبق للولايات المتحدة الأميركية، وعبر سفارتها في بيروت أن أصدرت بيانًا أكدت فيه أن كلّ فئات الدولار مقبولة ويجب أن يتم التداول بها من دون أي قيد. ومع ذلك، استمرّ المشهد في لبنان على ما هو!
الأخطر أنّ هذه الممارسات لا تقتصر على الربح المالي في لعبة «سكويد غايم» المتكرّرة مرة على فئة الخمسين ومرة على فئة العشرين دولارًا واليوم على فئة المئة. فكل عملية ابتزاز مرتبطة بورقة نقدية تزيد إضعاف ثقة المواطن وتدفعه إلى الارتماء أكثر في أحضان الصرّافين الذين يشكلون نوعًا من العصابات، ويجنون الأرباح من تجارة القبول بفئات دولارية معيّنة مقابل حسومات على القيمة الحقيقية للعملة. ولا يبدو أن المواطن متحمّس للتقدم بشكاوى إلى مصرف لبنان لمعاقبة من يرفض قبض الدولار. وقد يكون من الأجدى أن يعتمد مصرف لبنان طريقة أخرى، يُلزم من خلالها الصرّافين والمصارف بقبول الدولارات كافة غير المزوّرة، وأن يعتمد نوعًا من المثابرة في الملاحقة لمعالجة هذه الأزمة. ومن المؤكد أنه عندما تعتاد السوق هذا الوضع، ستصبح الأمور سلسة، وستزول هذه المشكلة المصطنعة بلا رجعة. ما يجري اليوم، هو أداة نهب وشفط بلا وجه حق. بالإضافة إلى عرقلة أعمال الناس، وتعقيد يومياتهم الحياتية أكثر مما هي معقّدة.
رأي خبير
رأى المحامي كارابيد فكراجيان، الباحث في المعهد اللبناني لدراسات السوق في حديثه لـ «نداء الوطن» أنّ «المشكلة الحالية التي يواجهها اللبنانيون في ما خصّ قبول الدولار الأميركي القديم الطبعة، مرتبطة بالصعوبات التقنية في شحن الأوراق النقدية، وهي أوراق عادة ما يُعاد شحنها إلى الولايات المتحدة». ومن هنا، اعتبر أنّ «الحلّ الأمثل يكمن في فتح المجال أمام شركات الشحن المالي بشكل أوسع، ومنح المزيد من التراخيص إذا كان العدد الحالي «لشاحني الدولار» غير كافٍ، بحيث يُصار إلى ردّ الدولارات القديمة واستبدالها بالجديدة بشكل أوسع. عندها «حتى لو بقيت كميات محدودة من الأوراق القديمة في السوق، فسيتأكد المواطن أنّها قابلة للشحن، ما يجعل الخاسر الحقيقي هو من يرفض قبولها، لا من يحتفظ بها أو ينفقها».
في المحصّلة، يعتبر استمرار الوضع على ما هو اليوم، بمثابة ابتزاز جماعي مُنظّم... حيث الوهم أشدّ وقعًا من التعاميم الرسمية. وقد تحوّلت الورقة الخضراء إلى ورقة ميتة شاحبة تُسحب من جيب المواطن برضاه لتُزهر مالًا «منهوبًا» في خزائن تجار الأزمات. والسؤال الذي يطرح نفسه على المسؤولين: متى ستُفرض غرامات مالية فورية على أي شخص أو مؤسسة أو صرّاف أو تاجر يمتنع عن قبول ورقة نقدية سليمة؟ ومتى ستُفرض شفافية رسمية لكسر الشائعات في مهدها...؟ اليوم هي فئة الـ 100 دولار القديمة... وغدًا «تنفيعة» جديدة، والآتي أعظم.