جهاد العايش
8 - ورطة تأسيس الدولة اليهودية: لقد أسهمت الحركة الصهيونية المشؤومة في نظر كثير من اليهود في توريطهم بتأسيس دولة سيتحمل أغلب اليهود ردحا من الزمن تبعات الحفاظ عليها.
لقد استدرجت الصهيونية رغبة ورهبة جمهرة غفيرة من يهود العالم إلى فلسطين، حتى حدا بكبرائهم إلى التحايل على توراتهم وتوصياتهم في مؤتمراتهم، وندواتهم لحث أكبر قدر ممكن من يهود العالم لاستيطان فلسطين؛ فقد واجهت الحركة الصهيونية عند بداية تفكيرها بتأسيس دولة قومية تجمع يهود العالم صعوبة بالغة في اقناع وكسب تأييد الحاخامات ووجهاء اليهود في الاستجابة لدعوتهم؛ لكن وبعد جهود حثيثة قام بها «ثيودور هرتزل» ومن معه، ومن خلال مؤتمرات متلاحقة استطاعوا حشد التأييد لفكرتهم في تأسيس دولة لليهود في فلسطين.
ونجحت الحركة الصهيونية في تغيير مسارات كثير من المناهضين لها، وجعلهم في صفها ويتكلمون بلسانها.
وكعادة اليهود في سرعة تقلبهم في مواقفهم، بدأ ما يسمى بالمؤتمر يغير اتجاهه، ويتخذ موقفا أكثر تفهما وتعاطفا مع الحركة الصهيونية، حتى أعلن برنامج كولومبوس عام 1947م الذي أكد أن من واجب كل يهودي أن يسهم في تعمير فلسطين، لا كملجأ للمحتاجين، وحسب بل كمركز لليهودية في العالم (موسوعة اليهود واليهودية، للمسيري).
بعد ذلك تمايزت الآراء اليهودية، فمنهم من أيد الفكرة برمتها، ورأى في ذلك خلاصا للشعب اليهودي مما هو فيه من شتات وبطش الشعوب له، ومنهم من طالب بتفكيك الدولة اليهودية وارجاع الحق إلى أصحابه، واعتبروا ذلك خروج على تعاليم التوراة والتلمود.
واعتبر كثير من الحاخامات أن ذلك انحراف عن العقيدة اليهودية، وما تسلل إليها ما أسموه ببدعة الدولة اليهودية، فهي دولة ملعونة غضب الله عليها وطلقها إلى الأبد وهي رجسة الخراب أو وحشة الخراب وغير ذلك من مصطلحات ومفردات الذم والقدح الكثيرة، التي جاء وصفها في التوراة، فهي زانية «دنست الأرض بزناها.. تحمت كل شجرة خضراء زنت... زنت مع أخلاء كثيرين.. زنت مع الحجر والخشب» (أرمياء 3:2-9).
«إنك لو اغتسلت بالنطرون، وأكثرت من الأشنان، لا تزالين ملطخة بإثمك، يقول السيد الرب: كيف تقولين لم أتنجس؟» (سفر ارمياء 22:2).
وأن الرب طلقها كما جاء في التوراة: «إني بسبب زنى المرتدة إسرائيل طلقتها فأعطيتها كتاب الطلاق» (أرمياء 8:3).. فكيف لدولة ربهم اتهمها بالزنى والنجاسة وأنه أعلن طلاقه منها يعودون إليها!
لذا صدر عن مؤتمر بتسبرج قرارات سميت باسم المؤتمر «16 -18 تشرين الثاني / نوفمبر عام 1885م»؛ الذي حضره 18 حاخاما إصلاحيا، وهو المؤتمر الذي أصدر قرارات صريحة ترفض فكرة عودة اليهود إلى فلسطين واستعادة العبادة القربانية (موسوعة اليهود واليهودية، عبد الوهاب المسيري).
وفي عام 1889م أسس «إسحق ماير وايز» منظمة يهودية تتبع اليهودية الاصلاحية، وتضم الحاخامات الاصلاحيين في الولايات المتحدة وكندا، تجتمع في مؤتمرات دورية، وهي جماعة مثل كثير من الجماعات اليهودية المعادية للحركة للصهيونية التي تتسم باختفاء النزعة القومية فيها، بل والبعد عن استخدام اللغة العبرية كأصل في الديانة اليهودية.
ويؤكد الحاخام «يسرائيل ديفيد فايس» أحد أشهر الحاخامات اليهود المعادين للصهيونية، والناطق الرسمي باسم منظمة «ناطورى كارتا»، أنه يعارض قيام «دولة إسرائيل»، والفكر الصهيوني، وأن «إسرائيل» إرهابية، وينبغي محاكمة قادتها أمام محكمة جرائم الحرب الدولية، ولن يكون هناك سلام أو استقرار في العالم إلا بإزالة «إسرائيل».
كما أصدر اللوبي اليهودي الجديد في أوروبا الذي يطلق على نفسه اسم «جي كول» بيانا بمناسبة مرور 62 عاما على النكبة، بعنوان «نداء إلى العقل»، وقع عليه قرابة الخمسة آلاف يهودي أوروبي على رأسهم شخصيات مرموقة، رفضوا فيه تحدث «إسرائيل» باسم يهود العالم، وطالبوهم وقف الاستيطان، واحترام حقوق الإنسان، وإنهاء احتلالها غير الشرعي، وإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة.
وفي مقابلة تلفزيونية أجراها Neil Cavuto من محطة فوكس الإخبارية الأمريكية الشهيرة مع رجل الدين اليهودي الأرثوذكسي «الراب» Yisroel Weiss ووصفتها القناة: بأنها مهمة للغاية؛ قال: هذه وجهة نظر متفق عليها عبر المائة سنة الماضية، أي منذ أن قامت الحركة الصهيونية بخلق مفهوم، أو فكرة تحويل اليهودية من ديانة روحية إلى شيء مادي ذي هدف قومي، للحصول على قطعة أرض، وجميع المراجع قالت إن هذا الأمر يتناقض مع ما تدعو إليه الديانة اليهودية، وهو أمر محرم قطعا في التوراة لأننا منفيون بأمر من الله.
وبعيدا عن كل ما سبق ما زالت عقدة زوال إسرائيل متجذرة في وجدان كل يهودي مقيم في فلسطين، بل وكل قائد وسياسي ومفكر يهودي اغتصب فلسطين فأقوالهم وأفعالهم شاهد عيان على ذلك، فانظر ما حذر منه «إسرائيل هاريل» المتحدث باسم المستوطنين أثناء انتفاضة 1987م، حين بدا الإجماع الصهيوني بخصوص الاستيطان يتساقط، من أنه إذا حدث أي شكل من أشكال الانسحاب والتنازل «أي الانسحاب من طرف واحد»، فإن هذا لن يتوقف عند الخط الأخضر «حدود 1948م»، إذ سيكون هناك انسحاب روحي يمكن أن يهدد وجود الدولة ذاتها (الجيروزاليم بوست 30 كانون الثاني / يناير 1988م)، وأخبر رئيس مجلس السامرة الإقليمي رئيس مجلس الوزراء لدولة الصهاينة شارون في مشادة كلامية معه « إن هذا الطريق الدبلوماسي هو نهاية المستوطنات، إنه نهاية إسرائيل» «هآرتس 17 يناير/ كانون الثاني 2002م ».
و نختم بما جاء ذكره في صحيفة «يديعوت أحرونوت»: «إن الجمهور في إسرائيل لم يعد يؤمن من جهته بأن الجيش الإسرائيلي أقوى جيش في العالم، والإسرائيليون اليوم أقل تفاؤلا، وأكثر خوفا ولم يعودوا يؤمنون بالقوة العسكرية كثيرا».
(نقلاً عن مجلة "بيت المقدس للدرسات التوثيقية" العدد 11 لعام 2011 ـ 1432)
الجزء الأول الجزء الثاني الجزء الثالث الجزء الرابع الجزء الخامس الجزء السادس الجزء السابع