من صفحات التاريخ

أ.د. علي محمد عودة

قصة صحيحية، رواها قاضيه بهاء الدين بن شداد في تاريخه، كما روتها بقية المصادر الأخرى مثل ابن كثير وغيره.

في القدس الشريف، وفي معلم يسمى الخانقاه الصلاحية، وفي هذه الغرفة الصغيرة منه التي ترونها في الصور، كان يخلو السلطان المظفر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله ، مصلياً لربه وداعيا مبتهلا، ويبيت فيها الليالي.

وقد ذكر لنا صاحبه القاضي ابن شداد رحمه الله خبر ليلة بات فيها عنده وقد وصله خبر قرب الصليبيين من القدس، ونيتهم دخولها:

"ولقد جلست في خدمته في تلك الليلة، وكانت ليلة الجمعة، من أول الليل الى أن قارب الصبح، وكان الزمان شتاءً، وليس معنا ثالث إلا الله تعالى، ونحن نقسم اقساماً، ونرتب على كل قسم بمقتضاه، حتى أخذني الاشفاق عليه، والخوف على مزاجه، فانه كان يغلب عليه اليبس، فشفعت إليه حتى يأخذ مضجعه لعله ينام ساعة، فقال رحمه الله: لعلك جاءك النوم.

ثم نهض، فما وصلت إلى بيتي وأخذت لبعض شأني، إلا وأذن المؤذن وطلع الصبح، وكنت أصلي معه الصبح في معظم الأوقات، فدخلت عليه وهو يمر الماء على أطرافه، فقال : ما أخذني النوم أصلا.

فقلت: قد علمت .

فقال: من أين؟؟؟

فقلت: لأني ما نمت، وما بقى وقت للنوم.

ثم اشتغلنا بالصلاة، وجلسنا على ما كنا عليه.

فقلت له: قد وقع لي واقع، وأظنه مفيداً إن شاء الله تعالى.

فقال: وما هو ؟؟؟

فقلت له: الإخلاد إلى الله تعالى، والإنابة إليه، والاعتماد في كشف هذه الغمة عليه.

 فقال: وكيف نصنع؟؟؟

فقلت : اليوم الجمعة، يغتسل المولى عند الرواح، ويصلي على العادة بالأقصى، موضع مسرى النبي صلى الله عليه وسلم، ويقدم المولى التصدق بشيء خفية على يد من يثق به، ويصلي المولى ركعتين بين الأذان والإقامة، ويدعو الله في سجوده، فقد ورد فيه حديث صحيح، وتقول في باطنك: «إلهي قد انقطعت أسبابي الأرضية فى نصرة دينك، ولم يبق إلا الإخلاد إليك والاعتصام بحبلك، والاعتماد على فضلك، أنت حسبي ونعم الوكيل»، فإن الله أكرم من أن يخيب قصدك، ففعل ذلك كله ، وصليت إلى جانبه ورأيته ساجدا ودموعه تتقاطر على شيبته ثم على سجادته.

ثم وصلت رقعة يُخبَر فيها أن الافرنج مختبطون، ثم اختلفوا، ثم وصلت رقعة بعدها بيومين تخبر باختلافهم ورحيلهم".

قلت: هذه القصة الحقيقية جرت سنة 588 هجرية، بعد جهاد طويل قضاه صلاح الدين في مواجهة الحملة الصليبية الثالثة التي تُعتبر أكبر حملة جردتها اوربا على الإطلاق، وكان يقود الجيوش الصليبية في تلك السنة الملك الأنجليزي ريتشار قلب الأسد، واصبحت الجيوش التي بحوزته من سائر أنحاء اوربا أكثر من خمس مئة الف طبقاً للمصادر الإنجليزية، وليس مع صلاح الدين سوى اربعين ألف.

وقد حدث أن ارسل صلاح الدين إلى نائبه بمصر أن يرسل إليه المؤن والاقوات لحاجة الجيش إليها، فجمع النائب تلك المؤن وارسلها على ثلاثة ألاف جمل، ونقل بعض المفسدين الخونة من بدو النقب خبر تلك القافلة إلى ريتشارد قلب الأسد، فانقض عليها واستولى عليها بكاملها، فكانت وقعة شنعاء لم يُصب صلاح الدين بمثلها، كما قال القاضي ابن شداد، وحدثت في نفس الوقت نفرة بين الأكراد والأتراك - وهما يشكلان العمود الفقري لجيش صلاح الدين، بسبب هوشة - مضاربة - وقعت بين جندي كردي وآخر تركي. وكانت هذه الحالة اسوأ حالة وصل إليها صلاح الدين في مواجهة الحملة الصليبية الثالثة، وأصبحت مدينة القدس من الناحية المادية واقعة لا محالة بيد الصليبيين القريبين منها.

وهنا دعاء صلاح الدين بتلك الدعوة التي أشار بها قاضيه وبكى مضطراً إلى ربه.

فاستجاب الله دعاء عبده صلاح الدين، فأوقع الله الخلاف بين الصليبيين، إذ أشار الفرنسيون بالهجوم الفوري على القدس - التي يتحصن فيها صلاح الدين بعساكر قليلة. وطلب ريتشارد قلب الأسد تأجيل الهجوم حتى يتم الاستعداد الكامل، فاحتد الخلاف بين الأنجليز والفرنسيين، وتبادلوا الاتهامات، ووقع بينهم الشك والريبة، فاضطروا للإنسحاب، والعودة إلى عكا. وانتهت الحرب بعقد صلح الرملة بين صلاح الدين وريشارد قلب الأسد - هدنة فقط - لمدة ثلاث سنوات وثلاثة اشهر.

وعاد ريتشارد قلب الاسد إلى أوربا، واحتفظ صلاح الدين بالقدس، ولم يفرط فيه.

اللهم كما اجبت دعوة عبدك صلاح الدين وأكرمته بنصرك، وسلطت الخلاف على أعدائه، انصر إخواننا المرابطين في الأرض المباركة، وانقذ أهل غزة من الجوع والتجويع والحصار والمذابح المروعة وشتت شمل عدوهم وشتت شمل جيش ودولة الصهاينة، وفرق كلمتهم وردهم على أعقابهم خاسرين، يا ولي الإسلام وأهله يا رب العالمين.

ـــــــــــــــ

 إقرأ أيضاً

الحبيب بورقيبة.. عادى الإسلام وحارب أحكامه وشرائعه.. أول حاكم عربي طالب بالاعتراف بقرار تقسيم فلسطين

الجيش الروسي يرتكب مذبحة بحق العثمانيين.. 50 ألفًا معظمهم ذبحًا بالسيف