مكرم رباح ـ نداء الوطن
يستمر الجدل حول نزع سلاح القوى المحسوبة على الحرس الثوري الإيراني في لبنان، في ظل تقاعس السلطات الرسمية عن وضع آليات عمل واضحة، والأهم من ذلك، جدول زمني لبسط سيادة الدولة، يُمَثِل بدوره تعبيرًا دبلوماسيًا مُقنعًا بشأن نزع سلاح "حزب الله" كما نَصّ عليه القرار 1701 المُعدّل.
في واقع الحال، إن مواصلة مقاربة لعنة السلاح بهذا الشكل، تشتّت السِجال عن جوهر المشكلة التي تكمن في سَعي الشيعية السياسية، المتمثلة بالثنائي (حركة أمل وحزب الله)، إلى الإبقاء على السلاح كونه يُمَكّنها من السيطرة على كامل موارد الدولة، من دون تحمّل المسؤولية التامة عن انهيار تلك الدولة ومؤسساتها. وهذا الأمر جَعَل من سلاح "الحزب" ليس فقط أداة مقاومة، بل وسيلة حكم خارجة عن إطار الدولة، تسمح بفرض الهيمنة بدون أي مساءلة أو محاسبة.
من الأجدى، بل الأكثر فاعلية، مجابهة الثنائي الشيعي بطريقة مختلفة، عبر مطالبتهم، بصراحة، بتقديم مطالب سياسية واضحة، أي ما يُعرف عادة بـ "الضمانات"، مقابل تسليمهم لسلاحهم، بدلًا من السماح لهم بالمماطلة القاتلة. فمن غير المنطقي الاستمرار في التعامل مع "الحزب" كحالة استثنائية تتخطى النقاش الوطني، في حين أن مصير الجمهورية برُمتها بات معلقًا بقراره الانفرادي.
عندما يتحدث مناصرو "حزب الله"، وبعض مناصري "حركة أمل"، عن ضرورة الإبقاء على السلاح والمطالبة بضمانات، فإنهم لا يقصدون بطبيعة الحال ضمانات تحميهم من أي عدوان إسرائيلي محتمل، بل يسعون إلى ضمان عدم خسارة مكتسباتهم السياسية والمادية عقب تسليم السلاح. أي أنهم يطمحون إلى عقد صفقة تُحافظ على امتيازاتهم مقابل تخليهم عن أدواتهم العسكرية، في ظل تجاهل تام لمفهوم الدولة كمؤسسة جامعة، لا كغنيمة تُوَزَع على مراكز القوى.
وهذا الواقع تنبّه له الموفد الرئاسي للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، توم برّاك، الذي قرر أن يخلع على "حزب الله"، المُصَنّف كمنظمة إرهابية لدى الولايات المتحدة، صفة الحزب السياسي، واقترح على اللبنانيين الحوار في ما بينهم بشأن موضوع السلاح ونزعه. لقد بلغت البراغماتية ببراك حدًّا أنه التقى مسؤولين من "حزب الله" خلال زيارته الأخيرة، لإيصال رسالة مفادها أن تعاون "الحزب" قد يفضي إلى رفعه عن لائحة العقوبات، كما حصل سابقًا مع جبهة النصرة. وهنا يكمن الخطر: إذ يتحول السلاح من معضلة وطنية إلى ورقة تفاوض دولية، تُختصر بمنطق العقوبات ورَفعِها، لا بمنطق إعادة بناء الدولة.
تجربة لبنان مع السلاح، لا سيما خلال الحرب الأهلية اللبنانية، كانت أكثر وضوحًا وصدقًا من الواقع الحالي. فخلال الحرب، وضع اليسار اللبناني برنامجًا سياسيًا إصلاحيًا واضحًا تضمّن مطالب وتعديلات دستورية، مقابل التخلي عن السلاح وعن محاولات تسخير سلاح منظمة التحرير الفلسطينية في معركته السياسية ذات الطابع العنفي.
وفي حالة الدروز، على سبيل المثال، قدّمت الزعامات الجنبلاطية واليزبكية والدينية خلال حرب الجبل، وبشكل مُوَحّد، مجموعة من المطالب السياسية الإصلاحية، عُرِفت آنذاك بـ "المذكرة الدرزية"، التي طالبت بتصحيح الغبن التاريخي والسياسي اللاحق بإحدى الطوائف المؤسسة للبنان. ركّزت الوثيقة على أن السلاح هو وسيلة للإصلاح وليس غاية بحد ذاته. وهذا ما أسس، رغم قساوة الحرب، لأرضية تفاوضية ساهمت لاحقًا في بلورة تسوية الطائف.
أما سلاح "حزب الله"، الذي يُدار سياسيًا من قبل رئيس مجلس النواب نبيه بري، فلا يستند إلى أي "مذكرة شيعية" واضحة، بل على العكس، يشوبه التضليل والمراوغة عبر الاحتماء بالدستور اللبناني عند الخطر، وتسخيره ومؤسساته لخدمة أهدافه الخاصة وقت السلم. فلا إصلاحات مطروحة، ولا برنامج سياسي واضح، بل مجرد سلاح معلق فوق الدولة، يُستخدم ساعة يشاء، ويُجمّد حين تنتهي الحاجة منه.
من الخطير السماح لـ "حزب الله" ومن يدور في فلكه بالاحتفاظ بالسلاح، ومن الأخطر الإبقاء على النظام السياسي رهينة مغامرات مذهبية وشخصية تستغل دماء اللبنانيين للبقاء في السلطة. وأثبتت التجربة التي خاضها لبنان خلال العقدين المنصرمين أن مغامرة "الشيعية السياسية" تشير إلى غياب الكفاءة والبصيرة السياسية في إدارة البلاد. إنها سلطة أمر واقع لا تملك مشروعًا وطنيًا، بل تكتفي بإدامة الشلل والإفلاس، بانتظار التغيير الآتي من الخارج أو صفقة إقليمية تُعيد توزيع النفوذ.
أما السلاح الإيراني، وعلى عكس سلاح الطوائف الأخرى في تاريخ لبنان الحديث، فهو مرتبط بأجندة خارجية تجعل من استدامة المجتمع وبقاء الدولة أمرًا مستحيلًا. وخير دليل على ذلك المآسي التي عصفت باللبنانيين، وفي طليعتهم الشيعة أنفسهم، القابعين خارج جنوبهم المدمَّر. أصبحت المعادلة واضحة، لا دولة مع سلاح، ولا إنقاذ مع دويلة، وكل تأخير في كسر هذه المعادلة يوسّع الهوة بين الدولة الصاعدة والدولة المتهاوية.
بوابة صيدا موقع إخباري متنوع ينطلق من مدينة صيدا ـ جنوب لبنان، ليغطي مساحة الوطن، والأمة العربية، والعالمين الإسلامي والغربي.. يقدم موقع (www.saidagate.com) خدمة إخبارية متنوعة تشمل الأخبار السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والإسلامية، والمقالات المتنوعة.. تقوم سياسة الموقع على الحيادية، والرأي والرأي الآخر، يستقي الموقع أخباره، من تغطيته للأحداث، ومن وكالات الأنباء العربية والعالمية..